رحلة الطائف نموذجا
مقدمة :
صاحب الفكرة المهموم بها ، يبذل جهده لنشرها و التبشير بها ، و هو فى سبيل ذلك يواجه عقبات شتى عليه أن يتخطاها نصرة لفكرته و سعيا فى إبلاغها . و الأمر كذلك ، فما البال ، إن لم تكن فكرة فحسب بل رسالة و نبوة و تكليفا من قبل الرب المعبود سبحانه إلى نبيه محمد * . فهو يبذل جهده و سعيه و يعانى الأهوال فى اجتياز العقبات و محاولات الصد من قبل أصحاب الجاه و السلطان من مشركى مكة . ويتفنن صلى الله عليه و سلم فى ابتكار الوسائل و رسم السياسات مواجهة لأعداء الرسالة و تضييقا عليهم، فى بسط أرض جديدة للدعوة و الرسالة . و رسول الله * يتصرف فى مثل هذه الأحوال و الظروف – لا كداعية مبشر فحسب أو فيلسوف منظر - بل كرجل الدولة ، توجهه عناية الله تعالى و وحيه .
" 1"
لماذا اختار رسول الله * الطائف ؟
تربط كتب السيرة دائما بين توجه رسول الله * إلى الطائف و بين ما لاقاه من أذى قريش خاصة بعد وفاة زوجه خديجة * و عمه أبى طالب . و يبدوا من خلال هذا الربط اليسير أن توجه النبى الكريم * إلى الطائف كان عفويا و كأنه تسرية لنفسه عما يلاقيه فى مكة ، و الرسالات الكبرى و المهام العظيمة لا تبلغ غاياتها هكذا .فقد كانت رحلة الطائف تمثل محورا مهما فى مخطط استراتيجى كبير عند رسول الله* يهدف من وراءه إلى إقامة دولة تحمى الدين و تنشر الدعوة بين العالمين . لكن لماذا كانت الطائف يختارها رسول الله * على وجه الخصوص ؟!
كانت الطائف تمثل العمق الإستراتيجي لملأ قريش، بل كانت لقريش أطماع في الطائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها، ووثبت على وادي وج وذلك لما فيه من الشجر والزرع، حتى خافتهم ثقيف وحالفتهم, وأدخلت معهم بني دوس، وقد كان كثير من أغنياء مكة يملكون الأملاك في الطائف, ويقضون فيها فصل الصيف، وكانت قبيلة بني هاشم وعبد شمس على اتصال مستمر مع الطائف، كما كانت تربط مخزوم مصالح مالية مشتركة بثقيففإذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فذلك توجه مدروس، وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدم, وعصبة تناصره، فإن ذلك سيفزع قريشًا، ويهدد أمنها ومصالحها الاقتصادية تهديدًا مباشرًا، بل قد يؤدي لتطويقها وعزلها عن الخارج، وهذا التحرك الدعوي السياسي الاستراتيجي, الذي يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على حرصه في الأخذ بالأسباب لإيجاد دولة مسلمة أو قوة جديدة, تطرح نفسها داخل حلبة الصراع؛ لأن الدولة أو إيجاد القوة التي لها وجودها, من الوسائل المهمة في تبليغ دعوة الله إلى الناس.
عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع القرار السياسي في الطائف .
أين كان موضع السلطة في الطائف؟
كان بنو مالك والأحلاف -بحكم أسبقيتهم الزمنية للاستيطان- هما المسيطرين عليها وتنتهي إليهما قيادتها, فكانت لهما الرئاسة الدينية المتمثلة في رعاية المسجد, بالإضافة إلى الزعامة السياسية العامة والعلاقة الخارجية, والنفوذ الاقتصادي، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا في وضع يمكنهما من الدفاع عن منطقة الطائف، التي كانت من أخصب بلاد العرب وأكثرها جذبًا للأنظار والأطماع، فكانا يخافان قبيلة هوازن، ويخافان قريش ويخافان بني عامر، وكلها قبائل قوية وقادرة على الانقضاض والاستلاب؛ ولذلك فقد اعتمد زعماء الطائف على سياسة المهادنة وحفظ الاستقرار السياسي عن طريق المعاهدات والموازنات وهي عين الطريق التي كانت تسير عليها قريش، فصار بنو مالك يوثقون علاقاتهم مع هوازن ليأمنوا شرها، وصار الأحلاف يرتبطون بقريش لتأمين جانبها .
هذا ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم غافلاً عن هذه الشبكة من العلاقات والمعاهدات, وهو يتجه إلى الطائف، بل كان يعرف أن الطائف لم تكن توجد بها سلطة مركزية واحدة، وإنما يقتسم السلطة فيها بطنان من بطون العرب بموجب اتفاقية داخلية، وأن أيا منهما كان يدور في فلك قبيلة خارجية أقوى، فإذا استطاع أن يستميل إليه أيا منهما, فسوف يكون لذلك أثر كبير في ميزان القوى السياسية، هذا على وجه العموم، أما إذا استطاع على وجه الخصوص أن يستميل إليه الأحلاف، وهو المعسكر المتحالف مع قريش، فإن خطته تكون قد بلغت تمامها وهو أمر غير مستحيل، فهو يعلم أن موادة هذا المعسكر لقريش لا تقوم على القناعة المذهبية أو الولاء الديني بقدر ما تقوم على أساس التخوف من قريش، وعلى هذا التقدير للوضع السياسي اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حينما دخل الطائف، إلى بني عمرو بن عمير الذين يترأسون الأحلاف، ويرتبطون بقريش، ولم يذهب إلى بني مالك الذين يتحالفون مع هوازن قال ابن هشام في السيرة: «لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمح غير أن بني عمرو كانوا شديدي الحذر وكثيري التخوف، فلم يستجيبوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بل بالغوا في السفه وسوء الأدب معه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم, وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيؤزرهم ذلك عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يود أن تتم اتصالاته تلك في جو من السرية، وألا تنكشف تحركاته لقريش، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم كثيرا بجوانب الحيطة والحذر .
====================================
يتبع ،للاستزادة فى هذا الموضوع ، كتاب : "أصول الفكر السياسى فى القرآن المكى " د. التيجانى عبدالقادر حامد